وجوب العمل بالشريعة الإسلامية"للشيخ عبد المالك رمضاني"
صفحة 1 من اصل 1
وجوب العمل بالشريعة الإسلامية"للشيخ عبد المالك رمضاني"
وجوب العمل بالشريعة الإسلامية
المسلم الذي يؤمن بالله و رسوله لا يتردّد في العمل بأمر الله – عز و جل – و أمر رسوله – صلى الله عليه و سلم –؛ لأن ذلك من مقتضى إيمانه، قال الله – تعالى –: {إنما كان قولَ المؤمنين إذا دُعوا إلى الله و رسوله ليحكم بينهم أن يقولوا سمعنا و أطعنا و أولئك هم المفلحون (51) و من يطع الله و رسوله و يخش الله و يتّقْه فأولئك هم الفائزون} (النور 51-52)، و الناس في تشريعاتهم يختارون لأنفسهم الأصلح في ظنهم، و لا أصلح مما اختاره الله لهم في شريعته حيث يقول: {أفحكم الجاهلية يبغون و من أحسن من الله حكما لقوم يوقنون} (المائدة 50)، و كل شريعة غير شريعة الله فنحن منهيّون عن اتباعها؛ لأن الله قد قال – و لا قول مع قول الله –: {ثم جعلناك على شريعة من الأمر فاتبعها و لا تتبع أهواء الذين لا يعلمون (18) إنهم لن يُغنوا عنك من الله شيئا و إن الظالمين بعضهم أولياء بعض و الله ولي المتقين (19)} (الجاثية).
و لهذا فإنه يستحيل أن يختار المسلم لنفسه حكما غير الله ذي الحكمة و العدل، و هو يقرأ قول الله – عز و جل –: {أفغير الله أبتغي حكما و هو الذي أنزل إليكم الكتاب مفصلا و الذين آتيناهم الكتاب يعلمون أنه منزل من ربك بالحق فلا تكونن من الممترين} (الأنعام 114)؛ و ذلك لأن كلام الله إما خبر و إما حكم، فخبره – عز و جل – صدق، و حكمه عدل، و لذلك قال عقِب هذه الآية: { و تمت كلمة ربك صدقا و عدلا لا مبدل لكلماته و هو السميع العليم} (الأنعام 115).
عن هانئ بن زيد – رضي الله عنه –: أنه لما وفد إلى رسول الله – صلى الله عليه و سلم – مع قومه سمعهم يكنّونه بأبي الحَكَم، فدعاه رسول الله – صلى الله عليه و سلم – فقال: "إن الله هو الحكم و إليه الحكم، فلم تكنّى بأبي الحكم؟" فقال: إن قومي إذا اختلفوا في شيء أتوني فحكمت بينهم، فرضي كلا الفريقين، فقال رسول الله – صلى الله عليه و سلم –: "ما أحسن هذا! فما لك من الولد؟" فقال: لي شريح و مسلم و عبد الله، قال: "فمن أكبرهم؟" قال: شُريح، قال: "فأنت أبو شريح". رواه أبو داود (4955)، و النسائي (8 / 226-227) بإسناد صحيح.
و كيف لا يكون الأمر كذلك، و قد أعطى الله – تعالى – الحقوق لأهلها من غير حيف و لا نسيان، كما قال رسول الله – صلى الله عليه و سلم –: "إن الله أعطى كل ذي حق حقه" الحديث، أخرجه الترمذي، و صححه الألباني في 'صحيح الجامع' (1720).
فما كان من خبر القرآن و السنة صدّق به المؤمن، و أيقن به قلبه و لو لم يبلغه عقله، قال الله – تعالى –: {و منأصدق من الله قيلا} (النساء 122).
و ما كان من حكم القرآن و السنة تحاكم إليه المؤمن منشرح الصدر، و لو كان فيه ذهاب شيء من حظه العاجل، قال الله – تعالى –: {فلا و ربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدون في أنفسهم حرجا مما قضيت و يسلموا تسليما} (النساء 65).
ذكر ابن القيم – رحمه الله – في 'مدارج السالكين' (2 / 171-172) الحديث الذي رواه مسلم (34) بلفظ: "ذاق طعم الإيمان من رضي بالله ربا، و بالإسلام دينا، و بمحمد رسولا"، و الحديث الذي رواه مسلم أيض (386) بلفظ: "من قال حين يسمع النداء: رضيت بالله ربا، و بالإسلام دينا، و بمحمد رسولا، غُفرت له ذنوبه"، ثم قال: [و هذان الحديثان عليهما مدار مقامات الدين، و إليهما ينتهي، و قد تضمنّا الرضا بربوبيته سبحانه و ألوهيته، و الرضا برسوله و الانقياد له، و الرضا بدينه و التسليم له، و من اجتمعت له هذه الأربعة فهو الصديق حقا، و هي سهلة بالدعوى و اللسان، و هي من أصعب الأمور عند حقيقة الامتحان، و لا سيما إذا جاء ما يخالف هوى النفس و مرادها، من ذلك تبين أن الرضا كان لسانه به ناطقا، فهو على لسانه لا على حاله...
و أما الرضا بنبيه رسولا: فيتضمن كمال الانقياد و التسليم المطلق إليهن بحيث يكون أولى به من نفسه، فلا يتلقى الهدى إلا من مواقع كلماته، و لا يحاكِم إلا إليه، و لا يحكّم عليه غيره، و لا يرضى بحكم غيره البتة، لا في شيء من أسماء الرب و صفاته و أفعاله، و لا في شيء من أذواق حقائق الإيمان و مقاماته، و لا في شيء من أحكام ظاهره و باطنه، لا يرضى في ذلك بحكم غيره، و لا يرضى إلا بحكمه، فإن عجز عنه كان تحكيمُه غيرَه من باب غذاء المضطر إذا لم يجد ما يقيته إلا من الميتة و الدم، و أحسن أحواله أن يكون من باب التراب الذي إنما يُتيمم به عند العجز عن استعمال الماء الطهور.
و أما الرضا بدينه: فإذا قال أو حكم أو أمر أو نهى، رضي كل الرضا، و لم يبق في قلبه حرج من حكمه، و سلّم له تسليما، و لو كان مخالفا لمراد نفسه أو هواها، أو قول مقلده و شيخه و طائفته.
و ههنا يوحشك الناس كلهم إلا الغرباء في العالم، فإياك أن تستوحش من الاغتراب و التفرد، فإنه – و الله! – عين العزة و الصحبة مع الله و رسوله، و روح الأنس به، و الرضا به ربا و بمحمد – صلى الله عليه و سلم – رسولا و بالإسلام دينا.
بل الصادق كلما وجد مسّ الاغتراب، و ذاق حلاوته، و تنسم روحه قال: اللهم زدني اغترابا و وحشة من العالم و أنسا بك، و كلما ذاق حلاوة هذا الاغتراب و هذا التفرد، رأى الوحشة عين الأنس بالناس، و الذل عين العز بهم، و الجهل عين الوقوف مع آرائهم و زبالة أذهانهم، و الانقطاع عين التقيد برسومهم و أوضاعهم، فلم يؤثر بنصيبه من الله أحدا من الخلق، و لم يبع حظه من الله بموافقتهم فيما لا يُجدي عليه إلا الحرمان.
و غايته مودة بينهم في الحياة الدنيا، فإذا انقطعت الأسباب، و حقت الحقائق، و بعثر ما في القبور، و حصل ما في الصدور، و بليت السرائر، لم يجد من دون موالاة الحق من قوة و لا ناصر، تبين له حينئذ مواقع الربح و الخسران، و ما الذي يخف أو يرجح به الميزان، و الله المستعان و عليه التكلان".
و من صفات المنافقين إرادة التحاكم إلى غير شريعة رب العالمين، قال الله – تعالى –: {أم تر إلى الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك و ما أنزل من قبلك يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت و قد أمروا أن يكفروا به و يريد الشيطان أن يضلهم ضلالا بعيدا (60) و إذا قيل لهم تعالوا إلى ما أنزل الله و إلى الرسول رأيت المنافقين يصدون عنك صدودا (61)} (النساء 60-61).
فاحذر من الإعراض عما أنزله الله من حكم في كتابه و على قلب رسوله – صلى الله عليه و سلم –، فقد يكون الحكم بغير ما أنزل الله كفرا، فتخرج من ملة الإسلام، و تخسر الدنيا و الآخرة، فلا تسعد في الدنيا بالحكم البشري الذي اخترته على حكم الله و فضلته عليه أو ساويته به؛ إذ لا سعادة إلا في ظل ما أنزل الله، و لا تسعد في الآخرة؛ إذ كنت في عِداد أعداء الله الذين قال فيهم: {و الذين كفروا فتعسا لهم و أضل أعمالهم ( ذلك بأنهم كرهوا ما أنزل الله فأحبط أعمالهم (9)} (محمد 8-9).
و لا تزال الأمم في معيشة ضنك ما أعرضت عن الوحي، قال الله – تعالى –: {و من أعرض عن ذكري فإن به معيشة ضنكا و نحشره يوم القيامة أعمى (124) قال رب لم حشرتني أعمى و قد كنت بصيرا (125) قال كذلك أتتك آياتنا فنسيتها و كذلك اليوم تُنسى (126)} (طه 124-126).
و ما نراه في مجتمعات المسلمين من اختلاف الرأي و تفكك الأواصر و لعن بعضهم بعضا هو نتيجة حتمية لبعد الناس عن العمل بالكتاب و السنة، أخبرنا بذلك رسول الله – صلى الله عليه و سلم –، فقد أخرج بن ماجه (4019)، و الحاكم (4/540)، و صححه الألباني في 'الصحيحة' (106) عن عبد الله بن عمر – رضي الله عنهما – قال: أقبل علبنا رسول الله – صلى الله عليه و سلم – بوجهه، فقال: "يا معشر المهاجرين! خمس إذا ابتليتم بهن، و أعوذ بالله أن تدركوهن: لم تظهر الفاحشة في قوم حتى يعلنوا بها إلا فشا فيهم الطاعون و الأوجاع التي لم تكن مضت في أسلافهم الذين مضوا، و لم ينقصوا المكيال و الميزان إلا أُخذوا بالسنين و شدة المؤنة و جَوْر السلطان عليهم، و لم يمنعوا زكاة أموالهم إلا مُنعوا القطر من السماء، فلولا البهائم لم يُمطروا، و لم ينقضوا عهد الله و عهد رسوله إلا سلط الله عليهم عدوا من غيرهم فأخذوا بعض ما في أيديهم، و ما لم تحكم أئمتهم بكتاب الله، و يتخيروا مما أنزل الله إلا جعل الله باسهم بينهم"
قال ابن تيمية عقب إيراده موضع الشاهد من هذا الحديث: [وهذا من أعظم أسباب تغيير الدول، كما قد جرى مثل هذا مرة بعد مرة، في زماننا و غير زماننا، و من أراد الله سعادته جعله يعتبر بما أصاب غيره، فيسلك مسلك من أيده الله و نصره، و يتجنب مسلك من خذله الله و أهانه] من 'مجموع فتاواه' (35/388).
فهيهات هيهات أن يعز قوم ولّوا شريعة ربهم ظهورهم، أخرج أحمد في 'الزهد' (ص 142) و أبو نعيم في 'الحلية' (1 / 216-217) بسند صحيح عن جبير بن نفير قال: (لمّا فُتحت قبرص فُرّق بين أهلها، فبكى بعضهم إلى بعض، فرأيت أبا الدرداء جالسا وحده يبكي، فقلت: يا أبا الدرداء! ما يبكيك في يوم أعز الله فيه الإسلام و أهله؟ فقال: ويحك يا جبير! ما أهون الخلق على الله – عز و جل – إذا أضاعوا أمره؛ بينما هي أمة قاهرة ظاهرة لهم الملك، تركوا أمر الله فصاروا إلى ما ترى!).
و على هذه الحال جرت سنة الله في دول الإسلام، قال الشيخ إسماعيل الحسيني في كتابه 'تحذير أهل الإيمان عن الحكم بغير ما أنزل الرحمن' (ص 84-85): [و كذلك الشام، كان أهله في أول الإسلام في سعادة الدنيا و الدين، ثم جرت فتن، و خرج الملك من أيديهم، ثم سُلّط عليهم المنافقون الملاحدة و النصارى بذنوبهم، و استولوا على بيت المقدس و قبلا الخليل، وفتحوا البناء الذي كان عليه و جعلوه كنيسة، ثم صلح دينهم فأعزهم الله و نصرهم على عدوهم لمّا أطاعوا الله و رسوله و اتبعوا ما أنزل إليهم من ربهم.
و كذلك أهل الأندلس كانوا رقودا في ظلال الأمن و خفض العيش و الدعة، فغمطوا النعمة، و قابلوها بالأشر و البطر، فاشتغلوا بمعاصي الله – تعالى –، و أكبّوا على لهوهم و لم يتقوا مواقع سخط ربهم و مقته، ففعل الله بهم ما لا يحصره قلم كاتب، و لا يحصيه حساب حاسب، بتسليط عدوهم عليهم حتى مزقهم الله كل ممزق، و فرقهم أيادي سبا، و ارتد بعضهم على عقبه؛ ركونا إلى الدنيا الفانية و الحظوظ العاجلة، و من قرأ تاريخهم علم ما كان القوم عليه، و ما صاروا إليه، و في التاريخ أكبر عبرة لمن اعتبر].
و مقابلة سريعة بين ما وصل إليه أصحاب رسول الله – صلى الله عليه و سلم – من العز مع القلّة، و ما وصل إليه غيرهم من الذلة مع الكثرة، تنبيك بالفارق الكبير بين صاحب الطاعة و صاحب المعصية، قال الشيخ اسماعيل الحسيني في كتابه السابق (ص 79): [ألا ترى أن الصحابة – رضي الله عنهم – بعد وفاة نبيهم – صلى الله عليه و آله و سلم – فتحوا ما فتحوا من الأقاليم و البلدان، و نشروا الإسلام و الإيمان و القرآن في مدة نحو مائة سنة، مع قلة عدد المسلمين و عُدَدهم و ضيق ذات يدهم، نحن مع كثرة عددنا و وفرة عُدَدنا و هائل ثروتنا و طائل قوتنا، لا نزداد إلا ضعفا و تقهقرا إلى وراء، و ذلة و حقارة في عيون الأعداء].
هذا ما تيسر جمعه، و إنما أردت تنبيه المسلمين جميعا إلى سبب ما حل بديارهم من محن، و لم أرد به تخصيص الأمراء بالأمر بإقامة الدين؛ لأن الخلق كلهم مأمورون بإقامة دين الله.
و من أراد تخصيص الأمراء بهذا، ففي عرينهم، و بلين القول لهم، مع مراعاة حكمة الشرع في ذلك، كما قال الله – تعالى – لموسى و هارون – صلى الله عليهما و سلم –: {اذهبا إلى فرعون إنه طغى (43) فقولا له قولا لينا لعله يتذكر أو يخشى (44)}.
نقل لكتاب تخليص العباد من وحشية أبي القتاد للشيخ عبد المالك رمضاني
المسلم الذي يؤمن بالله و رسوله لا يتردّد في العمل بأمر الله – عز و جل – و أمر رسوله – صلى الله عليه و سلم –؛ لأن ذلك من مقتضى إيمانه، قال الله – تعالى –: {إنما كان قولَ المؤمنين إذا دُعوا إلى الله و رسوله ليحكم بينهم أن يقولوا سمعنا و أطعنا و أولئك هم المفلحون (51) و من يطع الله و رسوله و يخش الله و يتّقْه فأولئك هم الفائزون} (النور 51-52)، و الناس في تشريعاتهم يختارون لأنفسهم الأصلح في ظنهم، و لا أصلح مما اختاره الله لهم في شريعته حيث يقول: {أفحكم الجاهلية يبغون و من أحسن من الله حكما لقوم يوقنون} (المائدة 50)، و كل شريعة غير شريعة الله فنحن منهيّون عن اتباعها؛ لأن الله قد قال – و لا قول مع قول الله –: {ثم جعلناك على شريعة من الأمر فاتبعها و لا تتبع أهواء الذين لا يعلمون (18) إنهم لن يُغنوا عنك من الله شيئا و إن الظالمين بعضهم أولياء بعض و الله ولي المتقين (19)} (الجاثية).
و لهذا فإنه يستحيل أن يختار المسلم لنفسه حكما غير الله ذي الحكمة و العدل، و هو يقرأ قول الله – عز و جل –: {أفغير الله أبتغي حكما و هو الذي أنزل إليكم الكتاب مفصلا و الذين آتيناهم الكتاب يعلمون أنه منزل من ربك بالحق فلا تكونن من الممترين} (الأنعام 114)؛ و ذلك لأن كلام الله إما خبر و إما حكم، فخبره – عز و جل – صدق، و حكمه عدل، و لذلك قال عقِب هذه الآية: { و تمت كلمة ربك صدقا و عدلا لا مبدل لكلماته و هو السميع العليم} (الأنعام 115).
عن هانئ بن زيد – رضي الله عنه –: أنه لما وفد إلى رسول الله – صلى الله عليه و سلم – مع قومه سمعهم يكنّونه بأبي الحَكَم، فدعاه رسول الله – صلى الله عليه و سلم – فقال: "إن الله هو الحكم و إليه الحكم، فلم تكنّى بأبي الحكم؟" فقال: إن قومي إذا اختلفوا في شيء أتوني فحكمت بينهم، فرضي كلا الفريقين، فقال رسول الله – صلى الله عليه و سلم –: "ما أحسن هذا! فما لك من الولد؟" فقال: لي شريح و مسلم و عبد الله، قال: "فمن أكبرهم؟" قال: شُريح، قال: "فأنت أبو شريح". رواه أبو داود (4955)، و النسائي (8 / 226-227) بإسناد صحيح.
و كيف لا يكون الأمر كذلك، و قد أعطى الله – تعالى – الحقوق لأهلها من غير حيف و لا نسيان، كما قال رسول الله – صلى الله عليه و سلم –: "إن الله أعطى كل ذي حق حقه" الحديث، أخرجه الترمذي، و صححه الألباني في 'صحيح الجامع' (1720).
فما كان من خبر القرآن و السنة صدّق به المؤمن، و أيقن به قلبه و لو لم يبلغه عقله، قال الله – تعالى –: {و منأصدق من الله قيلا} (النساء 122).
و ما كان من حكم القرآن و السنة تحاكم إليه المؤمن منشرح الصدر، و لو كان فيه ذهاب شيء من حظه العاجل، قال الله – تعالى –: {فلا و ربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدون في أنفسهم حرجا مما قضيت و يسلموا تسليما} (النساء 65).
ذكر ابن القيم – رحمه الله – في 'مدارج السالكين' (2 / 171-172) الحديث الذي رواه مسلم (34) بلفظ: "ذاق طعم الإيمان من رضي بالله ربا، و بالإسلام دينا، و بمحمد رسولا"، و الحديث الذي رواه مسلم أيض (386) بلفظ: "من قال حين يسمع النداء: رضيت بالله ربا، و بالإسلام دينا، و بمحمد رسولا، غُفرت له ذنوبه"، ثم قال: [و هذان الحديثان عليهما مدار مقامات الدين، و إليهما ينتهي، و قد تضمنّا الرضا بربوبيته سبحانه و ألوهيته، و الرضا برسوله و الانقياد له، و الرضا بدينه و التسليم له، و من اجتمعت له هذه الأربعة فهو الصديق حقا، و هي سهلة بالدعوى و اللسان، و هي من أصعب الأمور عند حقيقة الامتحان، و لا سيما إذا جاء ما يخالف هوى النفس و مرادها، من ذلك تبين أن الرضا كان لسانه به ناطقا، فهو على لسانه لا على حاله...
و أما الرضا بنبيه رسولا: فيتضمن كمال الانقياد و التسليم المطلق إليهن بحيث يكون أولى به من نفسه، فلا يتلقى الهدى إلا من مواقع كلماته، و لا يحاكِم إلا إليه، و لا يحكّم عليه غيره، و لا يرضى بحكم غيره البتة، لا في شيء من أسماء الرب و صفاته و أفعاله، و لا في شيء من أذواق حقائق الإيمان و مقاماته، و لا في شيء من أحكام ظاهره و باطنه، لا يرضى في ذلك بحكم غيره، و لا يرضى إلا بحكمه، فإن عجز عنه كان تحكيمُه غيرَه من باب غذاء المضطر إذا لم يجد ما يقيته إلا من الميتة و الدم، و أحسن أحواله أن يكون من باب التراب الذي إنما يُتيمم به عند العجز عن استعمال الماء الطهور.
و أما الرضا بدينه: فإذا قال أو حكم أو أمر أو نهى، رضي كل الرضا، و لم يبق في قلبه حرج من حكمه، و سلّم له تسليما، و لو كان مخالفا لمراد نفسه أو هواها، أو قول مقلده و شيخه و طائفته.
و ههنا يوحشك الناس كلهم إلا الغرباء في العالم، فإياك أن تستوحش من الاغتراب و التفرد، فإنه – و الله! – عين العزة و الصحبة مع الله و رسوله، و روح الأنس به، و الرضا به ربا و بمحمد – صلى الله عليه و سلم – رسولا و بالإسلام دينا.
بل الصادق كلما وجد مسّ الاغتراب، و ذاق حلاوته، و تنسم روحه قال: اللهم زدني اغترابا و وحشة من العالم و أنسا بك، و كلما ذاق حلاوة هذا الاغتراب و هذا التفرد، رأى الوحشة عين الأنس بالناس، و الذل عين العز بهم، و الجهل عين الوقوف مع آرائهم و زبالة أذهانهم، و الانقطاع عين التقيد برسومهم و أوضاعهم، فلم يؤثر بنصيبه من الله أحدا من الخلق، و لم يبع حظه من الله بموافقتهم فيما لا يُجدي عليه إلا الحرمان.
و غايته مودة بينهم في الحياة الدنيا، فإذا انقطعت الأسباب، و حقت الحقائق، و بعثر ما في القبور، و حصل ما في الصدور، و بليت السرائر، لم يجد من دون موالاة الحق من قوة و لا ناصر، تبين له حينئذ مواقع الربح و الخسران، و ما الذي يخف أو يرجح به الميزان، و الله المستعان و عليه التكلان".
و من صفات المنافقين إرادة التحاكم إلى غير شريعة رب العالمين، قال الله – تعالى –: {أم تر إلى الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك و ما أنزل من قبلك يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت و قد أمروا أن يكفروا به و يريد الشيطان أن يضلهم ضلالا بعيدا (60) و إذا قيل لهم تعالوا إلى ما أنزل الله و إلى الرسول رأيت المنافقين يصدون عنك صدودا (61)} (النساء 60-61).
فاحذر من الإعراض عما أنزله الله من حكم في كتابه و على قلب رسوله – صلى الله عليه و سلم –، فقد يكون الحكم بغير ما أنزل الله كفرا، فتخرج من ملة الإسلام، و تخسر الدنيا و الآخرة، فلا تسعد في الدنيا بالحكم البشري الذي اخترته على حكم الله و فضلته عليه أو ساويته به؛ إذ لا سعادة إلا في ظل ما أنزل الله، و لا تسعد في الآخرة؛ إذ كنت في عِداد أعداء الله الذين قال فيهم: {و الذين كفروا فتعسا لهم و أضل أعمالهم ( ذلك بأنهم كرهوا ما أنزل الله فأحبط أعمالهم (9)} (محمد 8-9).
و لا تزال الأمم في معيشة ضنك ما أعرضت عن الوحي، قال الله – تعالى –: {و من أعرض عن ذكري فإن به معيشة ضنكا و نحشره يوم القيامة أعمى (124) قال رب لم حشرتني أعمى و قد كنت بصيرا (125) قال كذلك أتتك آياتنا فنسيتها و كذلك اليوم تُنسى (126)} (طه 124-126).
و ما نراه في مجتمعات المسلمين من اختلاف الرأي و تفكك الأواصر و لعن بعضهم بعضا هو نتيجة حتمية لبعد الناس عن العمل بالكتاب و السنة، أخبرنا بذلك رسول الله – صلى الله عليه و سلم –، فقد أخرج بن ماجه (4019)، و الحاكم (4/540)، و صححه الألباني في 'الصحيحة' (106) عن عبد الله بن عمر – رضي الله عنهما – قال: أقبل علبنا رسول الله – صلى الله عليه و سلم – بوجهه، فقال: "يا معشر المهاجرين! خمس إذا ابتليتم بهن، و أعوذ بالله أن تدركوهن: لم تظهر الفاحشة في قوم حتى يعلنوا بها إلا فشا فيهم الطاعون و الأوجاع التي لم تكن مضت في أسلافهم الذين مضوا، و لم ينقصوا المكيال و الميزان إلا أُخذوا بالسنين و شدة المؤنة و جَوْر السلطان عليهم، و لم يمنعوا زكاة أموالهم إلا مُنعوا القطر من السماء، فلولا البهائم لم يُمطروا، و لم ينقضوا عهد الله و عهد رسوله إلا سلط الله عليهم عدوا من غيرهم فأخذوا بعض ما في أيديهم، و ما لم تحكم أئمتهم بكتاب الله، و يتخيروا مما أنزل الله إلا جعل الله باسهم بينهم"
قال ابن تيمية عقب إيراده موضع الشاهد من هذا الحديث: [وهذا من أعظم أسباب تغيير الدول، كما قد جرى مثل هذا مرة بعد مرة، في زماننا و غير زماننا، و من أراد الله سعادته جعله يعتبر بما أصاب غيره، فيسلك مسلك من أيده الله و نصره، و يتجنب مسلك من خذله الله و أهانه] من 'مجموع فتاواه' (35/388).
فهيهات هيهات أن يعز قوم ولّوا شريعة ربهم ظهورهم، أخرج أحمد في 'الزهد' (ص 142) و أبو نعيم في 'الحلية' (1 / 216-217) بسند صحيح عن جبير بن نفير قال: (لمّا فُتحت قبرص فُرّق بين أهلها، فبكى بعضهم إلى بعض، فرأيت أبا الدرداء جالسا وحده يبكي، فقلت: يا أبا الدرداء! ما يبكيك في يوم أعز الله فيه الإسلام و أهله؟ فقال: ويحك يا جبير! ما أهون الخلق على الله – عز و جل – إذا أضاعوا أمره؛ بينما هي أمة قاهرة ظاهرة لهم الملك، تركوا أمر الله فصاروا إلى ما ترى!).
و على هذه الحال جرت سنة الله في دول الإسلام، قال الشيخ إسماعيل الحسيني في كتابه 'تحذير أهل الإيمان عن الحكم بغير ما أنزل الرحمن' (ص 84-85): [و كذلك الشام، كان أهله في أول الإسلام في سعادة الدنيا و الدين، ثم جرت فتن، و خرج الملك من أيديهم، ثم سُلّط عليهم المنافقون الملاحدة و النصارى بذنوبهم، و استولوا على بيت المقدس و قبلا الخليل، وفتحوا البناء الذي كان عليه و جعلوه كنيسة، ثم صلح دينهم فأعزهم الله و نصرهم على عدوهم لمّا أطاعوا الله و رسوله و اتبعوا ما أنزل إليهم من ربهم.
و كذلك أهل الأندلس كانوا رقودا في ظلال الأمن و خفض العيش و الدعة، فغمطوا النعمة، و قابلوها بالأشر و البطر، فاشتغلوا بمعاصي الله – تعالى –، و أكبّوا على لهوهم و لم يتقوا مواقع سخط ربهم و مقته، ففعل الله بهم ما لا يحصره قلم كاتب، و لا يحصيه حساب حاسب، بتسليط عدوهم عليهم حتى مزقهم الله كل ممزق، و فرقهم أيادي سبا، و ارتد بعضهم على عقبه؛ ركونا إلى الدنيا الفانية و الحظوظ العاجلة، و من قرأ تاريخهم علم ما كان القوم عليه، و ما صاروا إليه، و في التاريخ أكبر عبرة لمن اعتبر].
و مقابلة سريعة بين ما وصل إليه أصحاب رسول الله – صلى الله عليه و سلم – من العز مع القلّة، و ما وصل إليه غيرهم من الذلة مع الكثرة، تنبيك بالفارق الكبير بين صاحب الطاعة و صاحب المعصية، قال الشيخ اسماعيل الحسيني في كتابه السابق (ص 79): [ألا ترى أن الصحابة – رضي الله عنهم – بعد وفاة نبيهم – صلى الله عليه و آله و سلم – فتحوا ما فتحوا من الأقاليم و البلدان، و نشروا الإسلام و الإيمان و القرآن في مدة نحو مائة سنة، مع قلة عدد المسلمين و عُدَدهم و ضيق ذات يدهم، نحن مع كثرة عددنا و وفرة عُدَدنا و هائل ثروتنا و طائل قوتنا، لا نزداد إلا ضعفا و تقهقرا إلى وراء، و ذلة و حقارة في عيون الأعداء].
هذا ما تيسر جمعه، و إنما أردت تنبيه المسلمين جميعا إلى سبب ما حل بديارهم من محن، و لم أرد به تخصيص الأمراء بالأمر بإقامة الدين؛ لأن الخلق كلهم مأمورون بإقامة دين الله.
و من أراد تخصيص الأمراء بهذا، ففي عرينهم، و بلين القول لهم، مع مراعاة حكمة الشرع في ذلك، كما قال الله – تعالى – لموسى و هارون – صلى الله عليهما و سلم –: {اذهبا إلى فرعون إنه طغى (43) فقولا له قولا لينا لعله يتذكر أو يخشى (44)}.
نقل لكتاب تخليص العباد من وحشية أبي القتاد للشيخ عبد المالك رمضاني
أحمد سالم- المساهمات : 126
تاريخ التسجيل : 13/04/2011
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى